فصل: قال ابن المثنى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

.قال ابن المثنى:

سورة الحجر:
{إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} أي أجل ومدّة، معلوم: موقّت معروف.
{لَوْ ما تَأْتِينا} مجازه: لو ما فعلت كذا، وهلّا ولولا وألّا، معناهن واحد، هلّا تأتينا، وقال الأشهب بن عبلة، وقال في غير هذا الموضع: ابن رميلة:
تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ** بنى ضوطرى لولا الكمىّ المقنّعا

أي هلّا تعدون قتل الكماة لوما: مجازها ومجاز لولا واحد، قال ابن مقبل:
لو ما الحياء ولو ما الدّين عبتكما ** ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى

{فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ} [10] في أمم الأولين واحدتها شيعة والأولياء أيضا شيع.
{كَذلِكَ نَسْلُكُهُ} [12] يقال: سلكه، وأسلكه لغتان.
{فِيهِ يَعْرُجُونَ} [14] أي يصعدون والمعارج الدّرج.
{لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا} [15] أي غشيت سمادير، فذهبت وخبا نظرها، قال:
جاء الشتاء واجثألّ القنبر ** واستخفت الأفعى وكانت تظهر

وطلعت شمس عليها مغفر ** وجعلت عين الحرور تسكر

أي يذهب حرها ويخبو.
{وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجًا} [16] أي منازل للشمس والقمر.
{مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ} [17] أي مرجوم بالنجوم، خرج مخرج قتبل في موضع مقتول.
{وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ} [19] أي جعلنا وأرسينا، ورست هي أي ثبتت.
{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [19] بقدر.
{وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} [22] مجازها مجاز ملاقح لأن الريح ملقحة للسحاب، والعرب قد تفعل هذا فتلقى الميم لأنها تعيده إلى أصل الكلام، كقول نهشل بن حرىّ يرثى أخاه:
ليبك يزيد بائس لضراعة ** وأشعث ممن طوّحته الطّوائح

فحذف الميم لأنها المطاوح، وقال رؤبة:
يخرجن من أجواز ليل غاض

أي مغضى، وقال العجّاج:
تكشف عن جماته دلو الدّال

{ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} [22] وكل ماء كان من السماء، ففيه لغتان: أسقاه اللّه وسقاه اللّه. قال الصّقر بن حكيم الرّبعىّ:
يا ابن رقيع هل لها من غبق ** ما شربت بعد طوىّ المرق

من قطرة غير النّجاء الدّفق ** هل أنت ساقيها سقاك المسقى

فجعله باللغتين جميعا، وقال لبيد:
سقى قومى بنى مجد وأسقى ** نميرا والقبائل من هلال

فجاء باللغتين، ويقال: سقيت الرجل ماء وشرابا من لبن وغير ذلك وليس فيه إلّا لغة واحدة بغير ألف إذا كان في الشّفة، وإذا جعلت له شربا فهو أسقيته وأسقيت أرضه وإبله، لا يكون غير هذا، وكذلك استسقيت له كقول ذى الرمّة:
وقفت على رسم لميّة ناقتى ** فما زلت أبكى عنده وأخاطبه

وأسقيه حتى كاد مما أبتّه ** تكلّمنى أحجاره وملاعبه

وإذا وهبت له إهابا ليجعله سقاء فقد أسقيته إيّاه.
{مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [26] الصلصال: الطّين اليابس لذى لم تصبه نار فإذا نقرته صلّ فسمعت له صلصلة فإذا طبح بالنار فهو فخّار وكل شيء له صلصلة، صوت فهو صلصال سوى الطين، قال الأعشى:
عنتريس تعدو إذا حرّك السّو ** ط كعدو المصلصل الجوال

{مِنْ حَمَإٍ} [62] أي من طين متغير وهو جميع حمأة، {مسنون} أي مصبوب.
{قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي} [39] مجازه مجاز القسم: بالذي أغويتنى.
{ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [47] أي من عداوة وشحناء.
{سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ} [47] مضمومة السين والراء الأولى وهذا الأصل، وبعضهم يضمّ السين ويفتح الراء الأولى، وكل مجرى فعيل من باب المضاعف فإن في جميعه لغة نحو سرير والجميع سرر وسرر وجرير والجميع جرر وجرر.
{وَجِلُونَ} [52] أي خائفون.
{قالُوا لا تَوْجَلْ} [52]، ويقال: لا تيجل، ولا تأجل بغير همز، ولا تأجل يهمز يجتلبون فيها همزة وكذلك كل ما كان من قبيل وجل يوجل ووحل يوحل، ووسخ يوسخ.
{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [54] قال: قوم يكسرون النون، وكان أبو عمرو يفتحها ويقول: إنها إن أضيفت لم تكن إلّا بنونين لأنها في موضع رفع، فاحتج من أضافها بغير أن يلحق فيها نونا أخرى بالحذف حذف أحد الحرفين إذا كانا من لفظ واحد، قال أبو حيّة النّميرىّ:
أبالموت الذي لابد ** أنى ملاق لا أباك تخوّفينى

ولم يقل تخوفيننى لا أباك: أي لا أبا لك، فجاء بقول أهل المدينة.
وقال عمرو بن معدي كرب:
تراه كالثّغام يعلّ مسكا ** يسوء الفاليات إذا فلينى

أراد فليننى فحذف إحدى النونين.
{قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ} أي ييأس، يقال: قنط يقنط وقنط يقنط قنوطا.
{أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ} أي آخرهم مجتذّ مقطوع مستأصل.
{إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي} اللفظ لفظ الواحد والمعنى على الجميع كما قال لبيد:
وخصم كنادى الجنّ أسقطت شأوهم ** بمستحصد ذى مرّة وصدوع

شأوهم: ما تقدموا وفاقوا به من كل شىء، المستحصد المحكم الشديد، وأمر محكم، وصدوع ألوان، يقال ذو صدعين: ذو أمرين.
{يَعْمَهُونَ} أي يجورون ويضلّون، قال رؤبة.
ومهمه أطرافه في مهمه ** أعمى الهدى بالجاهلين العمّه

{لِلْمُتَوَسِّمِينَ} أي المتبصرين المتثبّتين.
{وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي بطريق.
{وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} الإمام كلما ائتممت واهتديت به.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي الهلكة، ويقال صيح بهم، أي أهلكوا.
{وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} مجازها: سبع آيات من المثاني، والمثاني هي الآيات فكأن مجازها: ولقد آتيناك سبع آيات من آيات القرآن، والمعنى وقع على أم الكتاب وهى سبع آيات، وإنما سميت آيات القرآن مثانى لأنها تتلو بعضها بعضا فثنيت الأخيرة على الأولى، ولها مقاطع تفصّل الآية بعد الآية حتى تنقضى السورة وهى كذا وكذا آية، وفى آية أخرى من الزّمر تصديق ذلك: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتابًا مُتَشابِهًا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ} مجازه مجاز آيات من القرآن يشبه بعضها بعضا قال:
نشدتكم بمنزل الفرقان أمّ ** الكتاب السّبع من مثانى

ثنين من آي من القرآن ** والسبع سبع الطول الدّوانى

وهى البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال ومجاز قول من نصب {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} على إعمال وآتيناك القرآن العظيم، ومعناه ولقد آتيناك أم الكتاب وآتيناك سائر القرآن أيضا مع أم الكتاب ومجاز قول من جرّ {القرآن العظيم} مجاز قولك، من المثاني ومن القرآن العظيم أيضا وسبع آيات من المثاني ومن القرآن.
{كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [90] أي على الذين اقتسموا.
{جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [91] أي عضوه أعضاء، أي فرّقوه فرقا، قال رؤبة:
وليس دين اللّه بالمعضّى

{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ} [94] أي افرق وامضه، قال أبو ذؤيب:
وكأنهن ربابة وكأنه ** يسر يفيض على القداح ويصدع

أي يفرّق على القداح أي بالقداح. اهـ.

.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها الحجر:

.[سورة الحجر: آية 72].

{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}.
وقوله سبحانه: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}، وهذه استعارة، والمراد بها صفتهم بالتردد في غيّهم، والتسكع في ضلالهم. فشبه تعالى المتلدد في غمرات الغى، بالمتردد في غمرات السكر.

.[سورة الحجر: آية 88].

{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}.
وقوله سبحانه: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [88]. وهذه استعارة، والمراد بها. ألن كنفك لهم، ودم على لطفك بهم، وجعل سبحانه خفض الجناح هاهنا في مقابلة قول العرب إذا وصفوا الرجل بالحدة عند الغضب: قد طار طيرة، وقد هفا حلمه، وقد طاش وقاره. فإذا قيل: قد خفض جناحه، فإنما المراد به وصف الإنسان بلين الكنف، والكظم عند الغضب، وذلك ضد وصفه بطيرة المغضب، ونزوة المتوثب.

.[سورة الحجر: آية 91].

{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}.
وقوله سبحانه: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [91]، وهذه استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون المعنى أنهم جعلوا القرآن أقساما مجزأة، كالأعضاء المعضّاة، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقيل: جعلوه أقساما، بأن قالوا: هو سحر وكهانة، وكذب وإحالة.
وأما التأويل الآخر في معنى {عضين} فيخرج به اللفظ عن أن يكون مستعارا، وذلك أن يكون معناها على ما قاله بعض المفسرين معنى الكذب. قال: وهو جمع عضة، كما كان في القول الأول، إلا أن العضة هاهنا معناها الكذب والزور، وفى القول الأول معناها التجزئة والتقسيم، وقد ذكر ثقات أهل اللغة في العضة وجوها. فقالوا: العضة النميمة، والعضة الكذب، وجمعه عضون. مثل عزة وعزون، والعضة السّحر، والعاضه الساحر.
وقد يجوز أن يكون جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جمع عضة، من السحر. أي جعلوه سحرا وكهانة، كما قال سبحانه حاكيا عنهم {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} {وإِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.

.[سورة الحجر: آية 94].

{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)}.
وقوله سبحانه: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [94]}، وهذه استعارة. لأن الصّدع على الحقيقة إنما يصح في الأجسام لا في الخطاب والكلام، والفرق، والصّدع، والفصل في كلامهم بمعنى واحد، ومن ذلك قولهم للمصيب في كلامه: قد طبّق المفصل، ويقولون: فلان يفصل الخطاب. أي يصيب حقائقه، ويوضح غوامضه.
فكأن المعنى في قوله سبحانه: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ} أي: أظهر القول وبينه في الفرق بين الحق والباطل. من قولهم صدع الرداء. إذا شقه شقه شقا بينا ظاهرا، ومن ذلك صدع الزجاجة. إذا استطار فيها الشق، واستبان فيها الكسر، وإنما قال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ} ولم يقل: فبلغ ما تؤمر، لأن الصدع هاهنا أعم ظهورا، وأشد تأثيرا.
وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك- واللّه أعلم- أن بالغ في إظهار أمرك، والدعاء إلى ربك، حتى يكون الدين في وضوح الصبح، لا يشكك نهجه، ولا يظلم فجه. مأخوذا ذلك من الصّديع، لشأنه ووضوح إعلانه. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الحجر:
{الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} الوحى الأعلى من حيث هو كلمات مسطورة: كتاب، ومن حيث هو آيات متلوة: قرآن، وكلا اللفظين كتاب وقرآن علم على ما في المصحف الشريف. {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} وربما يود الذين قصروا لو كانوا مجدين، وربما يود الذين عصوا لو كانوا مطيعين، وعندما تنكشف الخدعة الكبرى يندم الذين أضاعوا أيامهم سدى، ولم يستعدوا للمستقبل الباقى {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. عبادة الدنيا والاستغراق في متعها شأن الناس من قديم، ولكنها عبادة اجتاحت الناس في هذا العصر حتى لتكاد الآخرة تكون وهما، وفى مواجهة ذلك يقول الله لنبيه: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم}، وقد لاحظنا أن آخر هذه السورة يؤكد أولها ويتجاوب معه، فعندما يتحدى عبيد الحياة أنبياءهم، ويعترضون طريقهم، ويظنون الدولة خالدة لهم، يجىء في أول السورة قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} وهذا قول موجز تفسره أواخر السورة عندما تقص كيف هلك قوم لوط، وقوم شعيب، وقوم صالح!!. إن الإناء يستقبل الأخطاء حتى إذا طفح بدأ العقاب، وربما فعل المجرمون الفعلة التي يجىء بعدها الهلاك. يقول الله تعالى في وصف قوم لوط وهم يريدون الفسق بضيوفه: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين} المتأملين في الأسباب والنتائج – {وإنها لبسبيل مقيم}.
أى: أن القرية الهالكة في طريقهم وهم يغدون ويروحون!!، ويقول جل شأنه في قوم شعيب: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين}: طريق واضح، ويقول في أصحاب الحجر- وبهم سميت السورة ـ: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}، وأصحاب الحجر هم ثمود، ويسمى العرب أرضهم بمدائن صالح، وهم يمرون عليها ليلا ونهارا، فهلا اتعظوا!!. إن هذا كله تفصيل لما ورد أول السورة عن القرى الهالكة: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}، وقد كان عرب الجاهلية يستهزئون بالقرآن وبمن نزل عليه {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} والجاهليون ليسوا بدعا في طلب نزول الملائكة، فقد سبقهم قوم نوح وهود وصالح، ولكن الله لا يستجيب لعبث أولئك الذين يستكثرون الرسالة على بشر منهم!. إنهم أدعياء يكرهون الفضل في غيرهم، ويحسبون الأمر مسابقة في الصدارة ينجح فيها الأكثر صفاقة! {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين}، وينبه سبحانه إلى أن هذا الوحى الخاتم خالد مادامت السموات والأرض، وأن أعداء الحقيقة مهما بلغت ضراوتهم لن يطمسوا أنواره {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ويقول جل شأنه ممتنا على رسوله بهذا القرآن: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم}، وكُفْر بعض الناس بالكتاب الكريم ليس لقصور به، إنه لتعصب فيهم وعناد! ولو سيقت إليهم المعجزات كلها ما ازدادوا إلا جحودا {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} والأدلة مهما قويت لا تجدى مع هؤلاء، وفى أول سورة الحجر وآخرها حديث شائق عن الكون وأسراره وقواه الدالة على صاحبه!. إذا نظر المرء إلى أعلى لم ينقض عجبه من شروق الأفلاك وغروبها في فضائها المديد إلى غير نهاية! وإذا نظر إلى الأرض وما أودع في برها وبحرها من بركات عجب كيف ضمن الله الرزق لكائنات لا حصر لها، وردد مع الرسول الكريم قوله: «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن».
يقول تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين}. لقد فصل أول السورة بركات الكون وخيراته وعجائبه، ولكنه أجمل في آخر السورة وأوجز عندما قال: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم}. لقد ثبت أن عناصر الجسم البشرى هي عناصر هذه التربة الأرضية، فكيف يتحول اللحم والعظم إلى تراب؟ ثم كيف يتحول التراب مرة أخرى إلى لحم وعظم؟. هل الخصيتان هما اللتان تهندسان خصائص الوراثة؟ وتحملان الطبائع المادية والمعنوية للإنسان؟. هل هذه الدريهمات من اللحم تصنع قدر الإنسان؟ إنها غدد عبقرية. إذن، إنها- عند النظر الصائب- غطاء للقدرة العليا يخترقه العقل السليم فيرى أن الله وحده هو المحيى المميت، وأنه بحكمته وإبداعه خالق كل شيء {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}. العلم الإلهى صفحة واحدة، يقترب فيها الأزل من الأبد، والأرض من السموات، والدقيق من الجليل، وعالم الحشرات والجراثيم بعالم الإنس والجن والطير!!. كنت في الطائرة فرمقت قطعة من الصحراء خيِّل إلى أنها تصلح للزراعة، فتساءلت: أتزرع هذه غدا؟ ثم أجبت نفسى: إن كانت ستزرع فإن الله وحده يعلم أيان يجيئها المطر، ويلتف حولها البشر، ويلتقطون منها الثمر.
{ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} إننى أتابع برامج عالم الحيوان وعالم البحار، وأعجب كيف تتكاثر الأحياء وكيف تتفانى، وكيف يجعل الله طعام طير سارح من دودة ملصقة بظهر حيوان ضخم يستريح حين يأكلها هذا الطير!!.
وعالم الإنسان نفسه مثار تفكير عميق، لقد خلق من طينة منتنة {من صلصال من حمإ مسنون} وعندما يعود إلى التراب بعد انقضاء رحلة العمر ويدفن تحته تكون رائحته أشد إزعاجا. كأن الناس يتدافنون حتى لا يشمئز بعضهم من بعض!. بم زكا الإنسان وسما؟ بم كرم ونغم؟ بهذه اللطيفة الربانية التي نفخت فيه، والتى طالما جار عليها وضاق بأوْجها!!. إن في الإنسان قبسا من نور الله الأسنى حسده عليه إبليس، وكره الاعتراف به، وقرر الانتقام من آدم وبنيه: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقد تكررت قصة آدم وعدوه في القرآن الكريم، وتميزت القصة هنا بتكرار المعدن الذي نشأ منه آدم، وأنه صلصال من حمأ مسنون، أى: طين متغير الرائحة!. إنه مسكن مؤقت على أية حال، أو جسر يعبر عليه الإنسان إلى مصيره الباقى وفق ما قدم من عمل في فترة الحياة الأولى، والمخدوع من نسى ربه ومبدأه ومعاده، وإبليس ليس له سلطان على بشر، والقانون- كما قيل- لا يحمى المغفلين! إن الشيطان لا يملك إلا الإغواء والخداع! وتزيين السم للآكلين، فمن الملوم بعد التحذير المستمر؟. على أبناء آدم اليقظة والانتباه والشعور بأن الله عندما يرضى يغفر الهنات، ويرفع الدرجات، وعندما يغضب لا ينجو من بطشه أحد {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}. ثم أعقب هذا الوعد والوعيد نبأ إبراهيم مع ضيوفه، ومن ضيوف إبراهيم؟ إنهم الملائكة الذين جاءوا يبشرونه بغلام عليم، ويبشرونه في الوقت نفسه بهلاك المدينة التي كانت تفعل المنكر!!، ولم يتعرض القرآن بالنفى للخرافة التي أوردها العهد القديم بأن الله تغدى أو تعشى في حفل أقامه له إبراهيم! وكان على المائدة عجل سمين! إن الله لا يأكل!، والسكوت عن هذه القصة أبلغ في ردها من إيرادها ثم تكذيبها، ويكفى ما امتلأ القرآن به من آيات التسبيح والتحميد..
أما قوم لوط فقد كانوا أهل سوء ودنس، وقد عانى لوط في تحذيرهم، وفشل في تطهيرهم، فدمر الله مدينتهم وجعل عاليها سافلها، واللواط مرض يظهر مع الإسراف الجنسى والحرمان الجنسى على سواء، وقد كان أصحابه يتوارون به استخذاء، حتى جاء الأوربيون والأمريكيون، فأقروه، ثم شرعوه!!، وكم من جماح شهوانى أقرته هذه الحضارة؟ ولكن العقاب الإلهى بالمرصاد.
أشرنا إلى الروابط التي تصل بين أول السورة وآخرها، وقد فصلت بينهما هذه القصص المسوقة للعظة والعبرة، ثم قيل للرسول الكريم: إن الله شرفك بهذا الوحى، فأدب الأمم به: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين}، والذى نراه أن المقتسمين هم أهل الكتاب الأولون الذين جعلوا القرآن أقساما يصدقون بعضها ويكذبون بعضها، فقال تعالى: {كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين}. أى: أعضاء أو أجزاء مقطعة يقبلون منها ما يشتهون، ويرفضون ما يكرهون، والمعنى العام: أن الله خص المسلمين بالوحى الخاتم المهيمن على ما قبله، كما منح أهل الكتاب الوحى السابق، فغيروا وبدلوا: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}. ثم بشر الله نبيه بأن رجال الوثنية الذين يقاومون رسالته لن يطول بهم أمد حتى يصرعوا جميعا. {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون} وقد كان أهل مكة قد أعلنوا حربا من السخرية والاستهزاء على الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعلى ما ينزل عليه من وحى، ونشروا سخريتهم وتهمهم على نطاق واسع، ورصدوا الوفود القادمة إلى مكة كى يحذروها من اتباع الرسول، والانخداع بما يقول، وطبيعى أن يتألم النبى من هذه الحملات الجائرة، ولكن الله أمره ألا يلقى إليها بالا، وألا يحزن لتهافت المشركين عليها. {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وقد صدق الله وعده فارتفع لواء الإيمان، وذهب الشرك وأتباعه في خبر كان. اهـ.